تحديات إسرائيل الداخلية- صراع الهوية وتآكل الردع ومستقبل الكيان.

في الرابع عشر من مايو/أيار عام 1948، وقبل بزوغ فجر دولة إسرائيل على أرض فلسطين التاريخية، التي أعلن قيامها ديفيد بن غوريون كدولة يهودية مستقلة، نعم اليهود وفكرة دولتهم برعاية استثنائية، تجسدت عمليًا في وعد بلفور البريطاني في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1917. هذا الوعد، الذي منحته الحكومة البريطانية لليهود، أباح لهم الحق في إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين. كان هذا القرار بمثابة صدى لقوة النصر في الحرب العالمية الأولى وتعبيرًا عن سطوة الاستعمار الذي احتضن عصابات ومليشيات صهيونية، مكنها من إقامة دولة على أنقاض حقوق الشعب الفلسطيني، الذي اقتُلع قسرًا من أرضه بنسبة بلغت 57%، ودُمرت له ما يقارب 500 بلدة وقرية تدميرًا كاملاً.
ولكي لا تبقى إسرائيل مجرد كيان غاصب للأرض وقاتل للإنسان، بادرت بالتوجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لتدعيم شرعيتها الدولية. استجابت الجمعية بإصدار قرارها رقم 273 في الحادي عشر من مايو/أيار عام 1949، والذي قضى بقبول إسرائيل عضوًا في الأمم المتحدة، شريطة التزامها بتطبيق قرار الجمعية رقم 181 الصادر في التاسع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1947، والذي دعا إلى تقسيم أرض فلسطين إلى دولتين: دولة عربية للفلسطينيين بنسبة 42.3%، ودولة يهودية لليهود بنسبة 57.7%. كما ألزم القرار إسرائيل بتنفيذ القرار رقم 194 الصادر في الحادي عشر من ديسمبر/كانون الأول عام 1948، والذي نص على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي طُردوا منها قسرًا.
لكن هذه الدولة الوليدة، التي ترعرعت على أنين الفلسطينيين ودمائهم، استقبلت القرار الأممي بقبول ظاهري، لكنها كعادتها لم تنفذه قط. عوضًا عن ذلك، راحت تصنع لنفسها هالة من المجد تفوق الخيال، عندما تمكنت في عام 1967 من هزيمة جيوش عربية مجتمعة بضربة خاطفة مباغتة، واحتلت الضفة الغربية وقطاع غزة، وشبه جزيرة سيناء المصرية، وأجزاء أخرى من الأراضي العربية في الأردن وسوريا ولبنان في غضون ستة أيام فقط، الأمر الذي أحدث صدمة عنيفة في الوعي العربي.
سِمات إسرائيل القوية:
لقد نشأت إسرائيل كقوة استعمارية مدعومة من بريطانيا العظمى، ولاحقًا من الولايات المتحدة الأميركية، لتكون ذراعًا لقيم الغرب الإمبريالي الكولونيالي، وحصنًا لحماية مصالح المنظومة الغربية في المنطقة الحيوية. تأسست إسرائيل على مزيج فريد من الهوية اليهودية المتميزة والقيم الغربية، وتتميز بسمات أساسية، لعل أبرزها:
أولًا: إن إسرائيل دولة يهودية خالصة، مخصصة لليهود الذين يزعمون "نقاء العرق والدم" والانتماء التاريخي لفلسطين كأرض الميعاد والخلاص. وفي هذا السياق، تروج إسرائيل لمظلومية اليهود التاريخية، الذين تعرضوا للاضطهاد في أوروبا. لقد نجحت إسرائيل في صياغة سردية دينية تاريخية متينة، صهرت من خلالها اليهود في مجتمع ودولة واحدة، وهي سردية سمحت لها باستدرار تعاطف العالم عبر وسائل الإعلام والسينما والفنون والعلاقات العامة، التي تديرها وكالات وشركات مملوكة لمافيا المال اليهودي الصهيوني.
ثانيًا: تعتمد إسرائيل على قوة عسكرية متفوقة نوعيًا، قادرة على سحق خصومها منفردين أو مجتمعين، وتسمح لها بتوجيه ضربة قاضية حاسمة وسريعة. تجلى ذلك في حروبها المتعددة مع العرب والفلسطينيين في الأعوام 1948، و1967، و1956، و1982، مما منحها قوة ردع وحصانة لا مثيل لها.
ثالثًا: تحظى إسرائيل بغطاء ودعم غربي أميركي مطلق ذي بُعد إستراتيجي، يضمن لها التفوق والتعويض عن أية خسائر محتملة. هذا الدعم اللامحدود جعل إسرائيل دولة استثنائية وكيانًا فوق القانون والمحاسبة. فهي لم تلتزم بالقوانين أو القرارات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، والتي تجاوز عددها 900 قرار على مدى 75 عامًا، دون خشية من الملاحقة أو المحاسبة في المحاكم الدولية أو الوطنية ذات الاختصاص الدولي، وذلك بفضل النفوذ الأميركي العابر للحدود والمؤسسات الدولية.
تحدّيات متعدّدة:
في العقد الأخير، وقبيل السابع من أكتوبر/تشرين الأول (معركة طوفان الأقصى)، بدأ المجتمع الصهيوني في إسرائيل يُظهر علامات ضعف متعددة، نتيجة الشعور بالرخاء الاقتصادي النسبي، والاستقرار الأمني الظاهري الذي استند إلى تراجع النضال الفلسطيني في ظل اتفاقيات أوسلو التي استمرت لأكثر من 30 عامًا، وتوسع دائرة التطبيع مع العديد من الدول العربية. ظهرت أمراض سياسية واجتماعية وهوية أخذت تهدد استقراره وسِلمه الأهلي، حتى في نظر النخب الإسرائيلية نفسها التي لم تتوانَ عن التحذير من هذه المخاطر. ومن بين هذه الأعراض:
أولًا: غياب القيادات التاريخية المؤسّسة، وانحسار التيار اليساري العلماني، وتقدّم الأحزاب الدينية المتطرفة كحزب شاس ويهودت هتوراه، والأحزاب اليمينية كالليكود، وصعود شخصيات يمينية قومية شعبوية – كوزير الأمن القومي بن غفير، ووزير المالية سموتريتش ودفاعهما المستميت عن الهوية الدينية للدولة في مواجهة الأغلبية العلمانية، عبر الترويج الإعلامي المكثف – ومحاولتهم الحثيثة لتقليص صلاحيات المحكمة العليا في إسرائيل لصالح الحكومة والسلطة التنفيذية التي يسيطرون عليها؛ تمهيدًا لسنّ قوانين ذات صبغة دينية واضحة على حساب الهوية العلمانية للدولة. هذا التوجه أدى إلى صراع هويّاتي عميق بين الدين والعلمانية، تجسد في تظاهرات ضخمة وحاشدة للعلمانيين في شوارع مدينة تل أبيب في الأشهر الأخيرة قبل معركة "طوفان الأقصى"، مما يشير بوضوح إلى تعاظم الانقسام والاستقطاب في المجتمع الصهيوني، وتهديد البيئة والجبهة الداخلية لدولة إسرائيل.
ثانيًا: بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وفي خضم تعبئة المجتمع الصهيوني للحرب الشرسة على غزة والمقاومة وحركة حماس، وبعد ستة أشهر من المعارك الضارية المتواصلة، أصبح جيش الاحتلال في حاجة ماسة إلى المزيد من الجنود، بعد أن استدعى بالفعل نحو 350 ألف جندي احتياطي (يشكلون 8% من القوى العاملة)، وارتفاع معدلات القتلى والجرحى (580 قتيلًا، و3160 جريحًا تقريبًا)، وخضوع نحو 30 ألف جندي وضابط للعلاج النفسي الذي يعيق قدرتهم على الالتحاق بالخدمة العسكرية. أصبح الجيش بحاجة ملحة لتجنيد نحو 20 ألف جندي جديد، مما فتح باب الجدل والخلاف العميق بين أقطاب الحكومة وفي المجتمع حول تجنيد المتدينين الحريديم الذين يشكلون 13% من السكان، والذين يتمتعون بامتيازات اقتصادية بصفتهم طلابًا في المدارس الدينية، ولا يُلزَمون ولا يلتزمون بالخدمة العسكرية داخل الجيش؛ لاعتبارات عقائدية متشددة ترفعهم فوق الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي الموصوف بعلمانيته المتعارضة مع معتقداتهم الدينية. هذا الأمر أثار حفيظة شرائح واسعة في المجتمع الصهيوني العلماني، ودفعهم للتظاهر؛ نتيجة شعورهم بالإجحاف والاستغلال الرخيص، مما كشف النقاب عن جانب من هشاشة المجتمع وضعف حصانته أمام استحقاقات الدم والقتال.
وهو أمر ما زال يتفاعل في أروقة الحكومة وبين وزرائها، بعد تهديد وزير الأمن القومي بن غفير ووزير المالية سموتريتش بالاستقالة إن أقرّ قانون تجنيد الحريديم، مقابل تهديد الوزير غانتس بالاستقالة إذا حصل العكس، مع اعتراض وزير الحرب غالانت والوزير غادي آيزنكوت على استمرار إعفاء الحريديم من التجنيد.
هذا، بدوره، كشف مستوى الانقسام العميق القديم في الدولة عموديًا وأفقيًا، وأظهر سوءة الطبقية الاستعلائية داخل المجتمع الصهيوني على أسس دينية وعلمانية متناقضة.
ثالثًا: أحدثت ضربة الـ 7 من أكتوبر/تشرين الأول (طوفان الأقصى) شرخًا عميقًا في نظرية الردع الإسرائيلية، وتعمّق هذا الشرخ أكثر مع فشل جيش الاحتلال في تحقيق أهداف الحرب المعلنة: (سحق حركة حماس، واستعادة الأسرى بالقوة، وإعادة المستوطنين إلى غلاف غزة دون تهديد) ضد الشعب الفلسطيني وحركة حماس في قطاع غزة للشهر السادس على التوالي، وهو الأمر المرشّح استمراره، حيث ذكر تقرير مجتمع أجهزة الاستخبارات الأميركية (18 جهازًا) لعام 2024 أن هدف تدمير حماس غير واقعي، وأن إسرائيل قد تخوض حربًا لسنوات ضد حماس.
في وقت لا يُستبعد فيه تحوّل المعركة إلى حرب استنزاف طويلة الأمد ضد إسرائيل في الضفة والقطاع ومع لبنان واليمن وفي البحر الأحمر وعموم المنطقة، وهي سابقة تاريخية، وإن استمرت على وتيرتها الحالية فستعمل على تآكل الاقتصاد الإسرائيلي من الداخل، حيث تراجع الإنتاج القومي نحو 20%، وارتفعت فاتورة الحرب لأكثر من 170 ملياردولار، وأصبحت إسرائيل بيئة طاردة للاستثمار، مما سيشجّع شرائح واسعة من المجتمع الصهيوني على الهجرة إلى أوروبا والولايات المتحدة، في وقت تتواتر فيه التقارير عن مغادرة نحو مليون يهودي من إسرائيل.
رابعًا: انهيار سردية الاحتلال بشكل سريع؛ فما بنته إسرائيل خلال 75 سنة من المظلومية، بدأ يتهاوى في أشهر معدودة؛ بسبب مستوى التوحّش المفضي لارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية، إلى حد اتهام إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية أمام محكمة العدل الدولية التي قبلت بدورها النظر في القضية في 26 يناير/كانون الثاني، وأمرت إسرائيل باتخاذ إجراءات احترازية تحول دون ارتكاب تلك الجريمة، مع ضرورة فتح الممرات لدخول المساعدات إلى المدنيين في عموم قطاع غزة.
وهو ما أكدته أيضًا المقرّرة الأممية لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية فرانشيسكا ألبانيز (26 مارس/آذار الجاري)، في تقريرها المرفوع إلى مجلس حقوق الإنسان، في وقت بلغ فيه عدد الشهداء نحو 32 ألف شهيد، 70% منهم من النساء والأطفال، بالإضافة لـ 74 ألف جريح حتى اللحظة، أي ما يعادل 4.6% من سكان القطاع.
في ذات السياق، برزت عزلة إسرائيل دوليًا، عندما صوّت 14 عضوًا في مجلس الأمن على قرار بوقف إطلاق النار في شهر رمضان ليفضي لاحقًا لوقف مستدام، مع التأكيد على ضرورة إدخال المساعدات فورًا، وذلك على عكس إرادة الكيان المحتل، وقد كان لافتًا امتناع واشنطن عن التصويت بعد أن استخدمت الفيتو 3 مرّات ضد مشاريع قرارات سابقة، كانت تطالب بوقف إطلاق النار خلال الستة أشهر من عمر العدوان على غزة، في إشارة إلى تصاعد مستوى الخلاف بين واشنطن وتل أبيب، وحرج الأولى من الانتهاكات الإسرائيلية وسلوكياتها العدوانية ضد الأطفال والمدنيين العزّل، أمام الشعب الأميركي والرأي العام الدولي.
وإذا كان هذا على مستوى المؤسسات الدولية، فإن الشعوب أيضًا عبّرت عن رفضها هذه الوحشية الإسرائيلية الاستثنائية في التاريخ الحديث ضد المدنيين، وعبّرت عن غضبها باستمرارها في التظاهر في أغلب عواصم العالم من اليابان حتى كندا، ولا سيّما في العواصم الغربية منها، إلى الحد الذي أصبح العدوان على غزة أحد المواضيع المؤثرة في الانتخابات الرئاسية الأميركية، فالجمهور الأميركي المعروف بتأييده العارم لإسرائيل تقليديًا، بدأ يغيّر نظرته منها بعد ما شاهده من وقائع وسياسات منهجية احتلالية ضد الأطفال والمدنيين العزّل حتى استخدام سلاح التجويع كأداة لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية.
وهذا التوجّه الجديد في الرأي العام عبّرت عنه شرائح الشباب الأميركي والليبراليين التقدميين والأقليات العربية والمسلمة، وعكسه آخر استطلاع للرأي نشرته مؤسسة غالوب الأميركية والذي يشير إلى أن 55% من الأميركيين يعارضون عملية الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، مقابل 36% فقط يؤيدونها.
مستقبل الكيان في جبهته الداخلية:
بناءً على ما سبق، تواجه إسرائيل تحديات جوهرية على مستوى تماسك ووحدة الجبهة الداخلية، بسبب الصراع المحتدم على هوية الدولة، والخلافات المتفاقمة الناتجة عن غياب معايير المساواة والعدالة بين مختلف شرائح المجتمع الإسرائيلي، والذي تجلى بوضوح في الخلاف الحاد حول قانون تجنيد المتدينين الحريديم.
بالإضافة إلى ذلك، انهارت سردية الاحتلال القائمة على المظلومية التاريخية، وتحطمت صورته كدولة ديمقراطية متحضرة تلتزم بالقيم الغربية وحقوق الإنسان، ليتحول إلى عبء أخلاقي ثقيل على كاهل حلفائه التقليديين في أميركا وكندا وفرنسا وبريطانيا، والعديد من الدول الأخرى.
إن استمرار الحرب على غزة بذات النسق الوحشي دون وجود أفق سياسي واضح، واستمرار قدرة حركة حماس والمقاومة الفلسطينية في فلسطين، وحزب الله في لبنان، وأنصار الله في اليمن على الصمود والمواجهة، انطلاقًا من حقهم الأصيل في الدفاع عن النفس وحقهم الثابت في تقرير المصير والتحرر من الاحتلال، وخاصة إذا تحولت المعركة إلى حرب استنزاف طويلة الأمد ضد إسرائيل، فإن ذلك سيؤدي حتمًا إلى توسيع دائرة الاضطرابات الداخلية في إسرائيل وتعميق حالة عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، الأمر الذي سيكون له تأثير بالغ على قدرة مؤسسات الدولة على القيام بالمهام الموكلة إليها، وعلى وجه الخصوص مؤسسة الجيش التي تشكل الحصن الأخير لدولة الاحتلال.
هذا التطور يمثل أكبر تحدٍ وجودي ذاتي يمكن أن تواجهه إسرائيل، وهو بالتأكيد أكثر خطورة من الإمدادات الأميركية الخارجية بالسلاح والمال، التي لن تكون قادرة على إنقاذ مجتمع بدأ السوس ينخر في جذوره وأغصانه من الداخل.
